[يصادف في نهاية شهر أيلول مرور عقد من الزمن على رحيل المفكِّر الفلسطيني إدوارد سعيد، الذي قدّم بفراسة المفكّر وحسّه النقدي قراءة لم تخطئ الواقع المرير الذي أحلّه على أرض فلسطين توقيع اتفاقية أوسلو، التي تمر ذكراها العشرون هذا الأسبوع. وكان سعيد من أبرز الأصوات المناهضة للاتفاقية، عارضاً في مقالاته وكتبه التي دوّنها قبل وبعد توقيع الاتفاقية، تفصيلاً لم يخطئ للنواحي العديدة التي أثرت من خلالها الاتفاقية سلباً على السيرورة الفلسطينية. تقدم "جدلية" مقتطفاً من كتابه القيّم "غزة-أريحا، سلام أمريكي" الصادر في العام 1995 عن دار المستقبل العربي]
لقد كنت دوماً، ولا أزال، من المؤمنين بعدم إمكانية حلّ الصراع العربي-الإسرائيلي عموماً، والصراع الفلسطيني-الصهيوني خصوصاً، حلاً عسكرياً محضاً. فأنا أؤمن –وبإخلاص- بمستقبل تتصالح فيه الشعوب والثقافات التي تبدو متنافرة الآن. وقد جعلت من هذا الإيمان والعمل على الاقتراب من تحقيقه شغلي الشاغل. إلا أن التصالح الأصيل لا يتم قسراً، كما أنه لن يتحقق أبداً بين مجتمعات وثقافات تتفاوت قوتها بشدة ويسيطر بعضها على البعض الآخر بالقوة. إن السلام الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا عبر مصالحة بين نديّن، وبين شريكين يستطيع كل منهما –باستقلاليته وقوة أهدافه وتماسكه- فهم الآخر ومشاركته بشكل متكافئ.
وقد نجحت إسرائيل على ما يبدو، وإلى حين، في إقناع العرب بوجه عام، والقيادة الفلسطينية المنهكة بشكل خاص، بأن المساواة مع إسرائيل أمر غير وارد على الإطلاق، وبأنه لا سلام إلا بالشروط التي تمليها إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. وقد ساعدت حالة التردي العربية الشاملة على ترويج هذه الأكذوبة، حينما امتصت سنوات الحروب الفاشلة، والشعارات الفارغة، والجماهير غير المعبأة، وانعدام الكفاءة، وانتشار الفساد، حيوية مجتمعاتنا، وهي المجتمعات المعوقة أصلاً بسبب غياب الديموقراطية والمشاركة، والأمل الذي تخلقه هذه المشاركة في نفوس الجماهير.
وهذا الفشل اللامحدود مسؤوليتنا جميعاً. فانتاج العالم العربي يتناقص باطراد في كافة المجالات على الرغم من الموارد الطبيعية والبشرية الوفيرة التي تتمتع بها المنطقة. فقد تقلص إجمالي الناتج القومي العام في العالم العربي خلال العقد الماضي، كما انخفض الناتج الزراعي، وانكمشت احتياطيات الأموال والموارد، وتكاثرت الحروب الأهلية –في لبنان، وفي الخليج، وفي اليمن، وفي السودان، وفي الجزائر- لتقضي على البقية الباقية من أي حيوية عربية. فإذا ما بحثنا عن إسهام العرب الحالي في تطوير العلوم والبحوث فسنجده صفراً تقريباً. وكذلك الحال في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث يتعرض خيرة الكتّاب والمثقفين والفنانين العرب للملاحقات والمضايقات، بقصد تدجينهم أو اسكاتهم تماماً، ومن يظل منهم متمسكاً برأيه فمصيره، في حالات كثيرة، السجون والمنافي. أما الصحافة العربية فحدّث ولا حرج، حيث نادراً ما تتجرأ صحيفة أو مجلة، تصدر من أي عاصمة عربية، على نشر ما يغضب النظام الحاكم في ذلك البلد. وكأنما وظيفة وسائل الإعلام الوحيدة هي خدمة الأنظمة، وترويج "الحقائق" التي تخترعها تلك الأنطمة. إلا أن الأنظمة العربية، برغم كل هذا الذي نقوله، هي من أطول أنظمة الحكم عمراً في العالم، حيث استطاعت الوقوف في وجه رياح التغيير طيلة جيلين من الزمن. ومن غير المجدي إلقاء اللوم في كل هذا على كاهل الإمبريالية والصهيونية. فأين كنا نحن؟ وكيف تحملنا هذا الذي لا ينبغي السكوت عليه طيلة هذا الزمن؟ هذا هو السؤال.
ما الغرابة إذن، والحال هكذا في أن تستسلم الصفوة الحاكمة، العربية والفلسطينية لأسطورة أمريكا والوهم الزائف عن أمريكا، وليس حتى لأمريكا بوزنها الفعلي. وكثيراً ما تساورني الدهشة والعجب، كلما كشفت لي حادثة أو أخرى عن مدى جهل العالم العربي بأمريكا، في الوقت الذي يزخر فيه هذا العالم بالتحليلات المضللة التي يطالعها القارئ العربي صباح مساء عن أمريكا والغرب. بل إن الأمر قد تفاقم بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث ساد افتراض مؤداه، أنه طالما أن الولايات المتحدة الأمريكية خرجت منتصرة من هذه الحرب، وطالما أنها القوة العظمى الوحيدة في العالم الآن، فإن هذا يعني بالضرورة قبول ما تريده، والانصياع لأوامرها بشكل حرفي. هذا في الوقت الذي تنتشر فيه، على الجانب الآخر، مشاعر العداء الأعمى لأمريكا، وكأنما يمكن اختزال هذا البلد الكبير وشعبه إلى نمط بسيط أحادي البعد. ويؤسفني أن أقول إن العديد من الحكام العرب يتصرفون وفقاً لعقلية أشبه بعقلية العبيد، فيتحرقون شوقاً إلى حفل استقبال ضخم تقيمه واشنطن لهم، ويعدون هذا الاستقبال ذروة نجاح حياتهم السياسية. هذا في الوقت الذي لا يولون فيه أدنى اهتمام لآليات تسيير السياسة الأمريكية والمجتمع الأمريكي. بل ولا يعرفون شيئاً عن الطريقة التي تتعامل بها أمريكا مع باقي بلدان العالم الثالث، ولا عن سجلها الحافل بالمخازي في هذا البلدان. كما لا يعيرون أدنى اهتمام لمعرفة كيف تؤثر الأزمات الداخلية في أمريكا على السياسة الخارجية. وفي ظل حالة فقدان الوعي هذه كان من السهل تمرير "الحلف الأمريكي" الذي تخدمه "عملية السلام" وتعميمه على بلدان الشرق الأوسط، دون أن تبدر من العرب أي مقاومة لهذه الخطة. بل إن البلدان العربية فاتها حتى أن ينسق بعضها مع البعض بالشكل الذي يؤهلهم للتعامل مع التفاصيل المترتبة على "عملية السلام" هذه.
بل إن دهشتي وعجبي يتزايدان كلما أمعنت التأمل في الافتراضات القاصرة، بل والخاطئة أحياناً، التي تحكم معرفة العقل العربي الرسمي بالولايات المتحدة. وأول هذه الافتراضات وأبرزها هو أنه يمكن كسب السياسة الأمريكية لصف الشعوب العربية ومصالحها. وهكذا نجد ياسر عرفات، على سبيل المثال، يتحدث كثيراً عن "صديقه" بيل كلينتون، في الوقت الذي يواصل فيه صديقه هذا دعمه غير المشروط لاسرائيل، ويرفض إدانة العنف الذي يمارسه المستوطنون الاسرائيليون، ولا يحرك ساكناً للدفاع عن أي مصلحة للفلسطينيين، ناهيك عن مصالح منظمة التحرير الفلسطينية. فعندما قامت القوات الإسرائيلية باخلاء بعض المواقع العسكرية في غزة، وإعادة نشر القوات في مواقع أخرى، وافق الكونغرس الأمريكي على منح إسرائيل معونة إضافية –زيادة على الخمسة بلايين دولار التي تتلاقها سنوياُ- تقدر بـ180 مليون دولار، وذلك لمساعدتها على القيام بهذه المهمة. هذا في الوقت الذي ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية تدرج فيه منظمة التحرير الفلسطينية ضمن المنظمات الإرهابية. والولايات المتحدة لا تعارض فقط حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، بل إنها قامت، في عهد الإدارة الجديدة، بتغيير سياساتها فيما يتعلق بالفلسطينيين إلى الأسوأ، حيث أصبحت تقر ضم إسرائيل للقدس والتوسع غير القانوني لأكثر من 200 مستوطنة يهودية. أما التقييم الفلسطيني الرسمي لطبيعة إسرائيل –التي يواصل عرفات منح رئيس وزرائها شهادات الجدارة والثقة- فهذه مهزلة أخرى، حيث تجتمع عدم المعرفة والحماقة في هذا التقييم. ويغيب وسط كل هذا أي تنسيق عربي حقيقي، إعلامي أو ثقافي، يتوجه للرأي العام الأمريكي الذي تختلف قطاعات هامة منه مع السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.
ويتضح هذا الخلل في التوجه بأمضى صوره في مجال التعبئة لنصرة نضال الشعب الفلسطيني، الذي أتشرف بالانتماء إليه، والذي خدمت في صفوف حركته الوطنية، وصولاً إلى عضوية المجلس الوطني الفلسطيني منذ عام 1977 وحتى استقالتي منه عام 1991. وقد جاءت استقالتي من المجلس الوطني في أعقاب اكتشاف الأطباء أنني أعاني من مرض اللوكيميا. إلا أن المرض لم يكن هو الباعث الوحيد وراء الاستقالة. فقد كانت هناك أيضاً الشروط التي قبلتها القيادة الفلسطينية حتى يتسنى لها الذهاب إلى مدريد، والتي كنت أرى أنها ستؤدي بنا إلى كارثة. وعلى الرغم من أني أعطيت صوتي في دورة المجلس الوطني الفلسطيني، التي انعقدت في الجزائر عام 1988، لصالح حل القضية على أساس وجود دولتين، إلا أنني أخذت أرى بوضوح، ومنذ العام 1991، الأسلوب الذي يتم به إهدار المكاسب التي حققتها الانتفاضة، بل وإصرار ياسر عرفات وحفنة من مستشاريه على قبول أي شيء تلقي به الولايات المتحدة وإسرائيل في طريقهم، حتى لا يفوتهم ركب "عملية السلام". وقد أدت السياسات الخاطئة التي اتبعتها منظمة التحرير، إبان أزمة الخليج، والإدارة غير الرشيدة للأموال وللأصول الفلسطينية، إلى هذا التحول. فقد وجدت قيادة منظمة التحرير نفسها، وفي خضم حالة الفوضى والذعر من المستقبل، تفرط في كافة الأهداف الوطنية والمشروعة للشعب الفلسطيني لصالح ما يعرف "بالحل الانتقالي"، الذي اقترحه شامير، وأيده جورج بوش وجيمس بيكر. وهكذا خرج الفلسطينيون من المولد بلا اعتراف بحقهم في تقرير مصيرهم، وبلا ضمان لسيادة مستقبلية، وبلا حقوق في التمثيل، في تقرير مصيرهم، وبلا ضمان لسيادة مستقبلية، وبلا حقوق في التمثيل، وبلا ذكر حتى لأي تعويضات لهم من الدولة التي تسببت في تشريدهم وضياع حقوقهم، هذا في الوقت الذي حصلت فيه نفس هذه الدولة من ألمانيا على 40 بليون دولار أمريكي تعويضاً عما لحق باليهود إبان الحرب العالمية الثانية.
وقد جاء إعلان مبادئ أوسلو، الذي تم الاحتفال بالتوقيع عليه في حديقة البيت الأبيض في سبتمبر الماضي، بالمزيد من التنازلات –كأنما كل هذه التنازلات التي ذكرتها لم تكن بكافية. فقد تنازلت القيادة الفلسطينية، ولأول مرة في التاريخ الفلسطيني الحديث، لا عن حق تقرير المصير فقط، بل وعن القدس وقضية اللاجئين، حيث ارجأت هذه الأمور مجتمعة إلى مفاوضات "المرحلة النهائية" غير المحدودة الشروط. كذلك تم قبول تقسيم الشعب الفلسطيني، الذي ناضلت قواه منذ عام 1948 من أجل الحفاظ على وحدته، إلى سكان الأراضي المحتلة يتم التعامل معهم داخل إطار عملية السلام، وآخرين –وهم يمثلون حوالي 55 في المئة من الفلسطينيين- تتجاهلهم "عملية السلام" هذه. وها نحن نشهد الآن ولأول مرة في القرن العشرين، حركة تحرر وطني تفرط في إنجازاتها الضخمة وتقبل التعاون مع سلطة احتلال، قبل أن تجبر هذه السلطة الاعتراف بعدم شرعية احتلالها للأراضي بالقوة العسكرية.
واليوم تتكشف لنا الحقائق فنعرف أن الجانب الفلسطيني ذهب للتفاوض على اتفاقية ملزمة دولياً، دون أن يأخذ معه مستشارين قانونيين أكفاء، وأن حفنة المفاوضين الفلسطينيين السريين كان ينقصهم الدراية والحنكة، فهم في نهاية المطاف مجموعة من "الفدائيين" الذين لم يفوضهم شعبهم للذهاب، والذين أرسلوا إلى أوسلو في مهمة تم بمقتضاها تفكيك بنية المقاومة الفلسطينية بأكملها، دون أن يكون في حوزتهم خرائط تفصيلية، ودون أي معرفة جادة بالحقائق والأرقام، ودون أي إلمام حقيقي بطبيعة إسرائيل أو مقتضيات المصلحة القومية للشعب الفلسطيني. وكم كنت أتمنى أن تثبت لي الأيام خطأ قولي هذا، إلا أن الأحداث والاتفاقيات، التي جاءت في أعقاب اتفاقية أوسلو، أكدت صحة هذا التقدير. وكنت قد صرحت لحظة الإعلان عن اتفاقية أوسلو، أكدت هذا التقدير.
[إدوارد سعيد، "غزة أريحا – سلام أمريكي"، الطبعة الثانية 1995، دار المستقبل العربي]